[img]
[/img]
الفنان محمود مختار
[b]ولد "محمود مختار" فى بلدة "طنبارة" وهى قرية بالقرب من مدينة المحلة الكبرى بوسط الدلتا، كان ميلاده يوم 10 مايو عام 1891.. أبوه هو "الشيخ ابراهيم العيسوى" عمدة القرية ولم تكن أمه هى الزوجة الأولى، كما كانت تصغر ابيه بشكل ملحوظ، ولم تلبث الخلافات ان نشبت بين الزوجات فأنتقل مختار ليعيش مع جدته لامه فى بيت خاله بقرية "نشا" بالقرب من مدينة المنصورة حيث تعلم فى كتابها
وعرف عن مختار أنه خلال طفولته بالريف كان يقضى معظم وقته بجوار الترعة يصنع من طينها اشكالاً وتماثيل تصور بعض المشاهد التى يراها فى قريته مثل النسوة وهن يحملن الجرار، أو حيوانات الحقل وهى تجر المحراث أو تدرس القمح.. وغير ذلك من مشاهد الريف.وقررت الام ان تنتقل الى القاهرة للعلاج الذى قد يطول.. وطلب مختار ان يلحق بها، لكنه لقى معارضة أقاربه.. حتى عزم أمره على السفر هارباً بمفرده.. وفى الطريق قابله خاله الشيخ "محمد أبو غازى" (والد المرحوم بدر الدين أبو غازى)، فرأف بحاله وصحبه الى أمه التى كانت تقيم فى حى "الحنفى" بجوار حى عابدين.. كان ذلك عام 1902 ولم يبلغ مختار عامه الحادى عشر، والتحق بإحدى المدارس الابتدائية ليكمل تعليمه. تقل مختار الى القاهرة ليعيش فى بيئة تسودها تقاليد الحارة المصرية
في الحارة
نتقل مختار الى القاهرة ليعيش فى بيئة تسودها تقاليد الحارة المصرية، حيث يختلط السكان ويتعاونون مهما تفاوتت مستوياتهم، التلاميذ واصحاب المتاجر والصناع والموظفون هذه البيئة الشعبية تحوطها عمارة القاهرة الاسلامية بفنونها العريقة، فتبهره مآذن مساجدها ويتعلم من ابناء الحى اكثر مما يتعلمه فى المدرسة.
كانت طفولته فى الريف تطل على الحقول الواسعة المنبسطة والحياة بأيقاعها البطىء، وفى القاهرة كان الضوء الساطع بالنهار يعكس ظلالاً حادة على زخارف عمارة المساجد والبيوت القديمة، فتوقظ لدى الصبى الحساس الرغبة فى التشكيل المجسم، وتثير حاسة اللمس لديه، وتوقظ الرغبة فى تحسس هذه الزخارف المجسمة.. فالاضاءة القوية والحياة معظم الوقت خارج الاماكن المغلقة يحقق الميل الى التجسيم واقامة الاشكال ذات الابعاد الثلاثة القادرة على اعطاء مماثل صادق لهذه البيئة.
وهكذا كانت الصورة التى تشبعت بها عيناه خلال طفولته وصباه، فى الريف ثم فى الحى الشعبى بالقاهرة، هى صورة متكاملة ترسم ملامح مصر فى ذلك الوقت.
مدرسة الفنون الجميلة
وتفتح مدرسة الفنون الجميلة المصرية ابوابها عام 1908 بحى درب الجماميز القريب من منزله، فيسرع الى الالتحاق بها، ويكون اول طالب يتقدم اليها.. وتبدأ مسيرة مختار مع الفن.
اانهمك مختار فى فنه حتى أطلق لحيته ولبس "البيريه" كغطاء للرأس وارتدى ملابس البوهيميين الفرنسين، وكان فخزراً بتشجيع استاذه النحات الفرنسى "المسيو لابلانى" ناظر المدرسة وصاحب فكرة اقامتها. وكان مخلصاً فى رعاية وتوجيه مختار ليبرهن على صواب فكرته. وهكذا التقت الموهبة بالرعاية والحماس مع الكفاءة.
ى باريس
يتقدم مختار للالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة الفرنسية "البوزار" مع اكثر من مائة متقدم جاءوا من فرنسا ومن سائر انحاء الارض، ويفوز مختار عليهم جميعاً، فيجىء ترتيبه الاول، وينال اعجاب استاذه الجديد "كوتان" ويشجعه راعياً لموهبته.
و وبدأ يتطلع الى الفنانين الكبار، ويتقدم عام 1913 الى المعرض السنوى للفنانين الفرنسين (صالون باريس) بتمثال يصور شخصية "عايدة" بطلة أوبرا "فردى" الشهيرة.. فيقبل التمثال فى المعرض وتتحدث عنه بعض صحف باريس. فيعود الى القاهرة وهو فى الثانية والعشرين خصيصاً ليشاهد الاثار المعروضة فى المتحف المصرى (الانتكخانة) كجزء من دراسته التى وجهه اليها اساتذته فى باريس. ويعرضون عليه خلال هذه الزيارة أن يعمل ناظراً لمدرسة الفنون الجميلة المصرية مكان استاذه "لابلانى" الذى قرر العودة الى وطنه..ويعود الى باريس بينما نذر الحرب العالمية الاولى تتجمع.. حتى يلقاه مصادفة استاذه الاول "المسيو لابلانى" فيدعوه ليحل مكانه فى ادارة "متحف جريفين" للتماثيل الشمعية والمقام فى حى "مونمارتر"، لان المسيو لابلانى بلغ سن التقاعد. ويقبل مختار هذه الوظيفة التى تعوضه عن العمل فى مصانع الذخيرة وتضعه فى موقع على رأس أهم متاحف الشمع فى العالم الى جانب متحف "مدام توسو" فى لندن واستمر فى هذا العمل طوال عامى 1918،1919.
وفيما بعد أقام تمثالاً " لأم كلثوم" باعتبارها اشهر فنانه مصرية.. وكانت قد انبعثت من صميم الريف مثله تماماً تشق طريقاً قاسياً فى ميدان فن الغناء.. محملة بالروح الريفية الطبيعية.. وقد تحمس لها، فصورها فى تمثال يفيض بالرقة والشجن والجمال من الشمع ثم اقام لها تمثالاً آخر عرضه فى باريس عام 1925 بينما كانت أم كلثوم فى مطلع حياتها الفنية.
الفنان والرائد
ان المثال محمود مختار هو أول من أعاد الحياة الى فن النحت المصرى بعد ان توقف لمئات السنين، وهو أول مثال فى بلادنا يقيم تماثيله فى الميادين العامة، وهو حتى الآن المثال الوحيد الذى اقيم لتماثيله متحف خاص هو "متحف مختار" بحديقة الحرية بارض الجزيرة فى القاهرة.
لقد حقق مختار فى حياته الفنية القصيرة (43 عاماً) مكانه وشهرة بين الملايين كواحد من قادة الثورة الوطنية.. وقد اقام مختار بناء شامخاً من ناحيتى الكم والكيف فى تاريخ فن النحت المصرى الحديث وفى نفس الوقت كان هو واضع لبناته الاولى، ان اسلوب هذا المثال لاتزال بصماته الواضحة تطبع فن النحت المصرى حتى وقتنا الحاضر.
وقد بدأت دراسته المنتظمة للفن على أيدى اساتذة أوروبين كانوا يلقنون تلاميذهم التعاليم الاكاديمية والقواعد الكلاسيكية الغربية فى الفن.. وبغير تردد اختار محمود مختار دراسة فن النحت.
ومع ذلك فقد استخدم هذا الاسلوب خلال فترة الدراسة فى التعبير عن ملامح العصر وافكار زمانه الوطنية والمشاعر الرومانسية وتمجيد روح البطولة والتغنى بامجاد العروبة..
وقد صاغ من هذه الملامح تماثيله لابطال العرب القدماء وقادة مصر فى ذلك الوقت فضلاً عن تصويره لمشاعر الحب فى تماثيله الاخرى.
وكان الفنان شغوفاً بالدراسة الفنية الى حد، انه افتتح مرسماً بجوار المدرسة عندما طرد منها هو وعدد من زملائه لقيامهم بحركة احتجاج عنيفة على النظم والقيود التى اعتبروها تتنافى مع روح الدراسة فى معهد فنى.. وقد تقرر بعد فترة وجيزة اعادتهم للانتظام فى الدراسة.
كان أحد اشكال الصراع فى المجتمع المصرى يدور بين قصر الخديوى المتعاون مع الاستعمار الانجليزى فى جانب، واصحاب الافكار المتحرره فى الرأسمالية الوطنية الناشئة فى الجانب الآخر، وكان لهذا الصراع بصماته على الثقافة.
اما الامير يوسف كمال الذى كان يطمع فى العرش، فكان يتقرب الى هؤلاء الوطنيين المثقفين، ولهذا فهو يرسل مختاراً المتحمس للبطولة العربية والدستور والاستقلال، الذى سجن خمسة عشر يوماً لتظاهره ضد الانجليز، انه يرسله ليدرس الفن فى باريس على نفقته الخاصة.
ان فهمنا لهذه التناقضات وموقع مختار منها، يفسر لنا بعض اسباب الانقسام الذى حدث حول فنه فيما بعد عندما بدأت لعبة تبادل كراسى الحكم بين ملاك الارض من جانب، والمتطلعين الى الصناعة والحرية الاقتصادية من جانب آخر، ويوضح الدوافع التى ادت الى مقاومة اعماله الميدانية فى بعض الفترات.. هذا علما بأن المطالبين بالحرية الاقتصادية والدستور كانوا يضمون الى صفوفهم عدداً من كبار ملاك الاراضى الذين لم يقنعوا بملكية الارض وحدها، واتجهوا الى الصناعة وعلى رأسهم طلعت حرب منشىء بنك مصر.. بالاضافة الى الامراء الذين كان يطمع كل منهم فى الفوز بالعرش بالاعتماد مؤقتا على الحركة الوطنية
. معرض باريس
حقق مختار مكانته واصبحت كلمته مسموعة، ونظر رجال الدولة نظرة احترام وتقدير لكل كلمة يقولها، لقد أصبح زعيماً كزعماء حزب الوفد لالتفاف الجماهير حوله والاعجاب العام به، وعندما اقامت جماعة الخيال معرضها الثانى فى مرسم الفنان المستشرق "روجيه بريفال" اشترى رئيس الوزراء أحد تماثيل مختار، كما أقتنت سيدة امريكية تمثالاً آخر أهدته الى متحف المتروبوليتان بنيويورك فيما بعد..
وفى آواخر عام 1929 سافر الفنان الى باريس حيث شارك فى معرض "صالون باريس" بتمثاله "عروس النيل" المنحوت فى الرخام، فنال عنه الميدالية الذهبية،
وفى 10 مارس عام 1930 ومع بداية فصل الربيع افتتح معرض كبير لتماثيل محمود مختار ضم أربعين عملاً، واستمر حتى 21 مارس، وقد أقيم المعرض فى قاعة برنهيم بباريس. فأفاضت الصحافة الفرنسية والامريكية والبلجيكية والانجليزية وكذلك صحافة بلاد الشمال فى الحديث عن المعرض باعتباره ممثلاً لوجه الفن المصرى المعاصر ومؤكداً لشخصية مختار الفنية القديرة، ووضع على نفس المستوى الابداعى للفنانين المشهورين: رودان ومايول وبورديل.. وكتب أحد كبار النقاد قائلاً: "فى زمن الخداع واهتزاز عناصر التقدير الفنى، مازالت القيم الجادة تحيا، وهو ذا نحن نلمسها فى اعمال مختار المصرى".
والي القاء في الموضوع القادم مع ابداعات وأهم الأعمال الفنية للفنان الرائد ----------------- كتبه( فريد ريفي)